استقلال حقيقي أم شعاراتية [تحرير] زائفة؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

2-4

[أولوية بناء مؤسسات الدولة وحالة تحريف مفهوم المقاومة]

 

                                رؤية هذه المداخلة: "إنَّ المهمة العاجلة  للعراقيين اليوم هي في توجههم إلى معطيات استقلال حقيقي يقوم بالأساس ويركِّز بشكل مباشر على إعادة بناء الدولة ومؤسساتها تلبية للحاجات الضرورية الملحّة وبما لايشارك هذه المهمة في اللحظة القائمة أية تداخلات معيقة أخرى تتعارض مع خطورة عملية البناء الوليدة. وسيكون كلّ ما عدا مجريات هذه العملية التاريخية  هو مما يقع في مزايدات لا تدرك وقائع الأمور الكارثية في بلادنا مستندة إلى شعاراتية [تحرير] زائفة هي أولاَ َ  تمثل الغطاء الرسمي الذرائعي لجرائم  تُرتَكَب بحق شعبنا وثانياَ َ تُعَدّ مساهمة خطيرة في حرف توجهاتنا بعيداَ َ عن إعادة البناء  الحقيقية الصادقة التي تمَّ  وقفها من النظام السابق ويتمّ تخريبها عبر أنشطة بقاياه الإجرامية. ولا يتعارض هذا مع سعينا بالكيفيات التي يراها شعبنا وفي الوقت المناسب لإنهاء وجود قوات الاحتلال الأجنبية ..."

 

 

                            وفي ضوء قراءة أوضاع مؤسسات الدولة اليوم وما نجم عن طبيعة علاقة المواطن بها في الظروف المنصرمة ومن ثمَّ في ضوء كلّ ما آلت إليه الأوضاع في اللحظة الراهنة, تنشأ تساؤلات عدة ولكنَّ السؤال الجوهري الآن هو ما أسبقياتنا؟ وما الأولويات التي تفرضها الظروف القائمة على مسيرة شعبنا وحركاته وقواه السياسية؟  وللإجابة الموضوعية عن مثل هكذا تساؤل لابد لنا من النظر في الوضع العراقي القائم .. ولابد لنا من قراءة الحاجات الأساسية الملحة والعاجلة لشعبنا المبتلى بنتائج الأمس المريض والحاضر المعقد بكل متطلباتهما وما يفترضاه من ضرورات مباشرة. ولعلَّنا نرى بوضوح تام ما يجري من تعطيل لكلِّ مؤسسات الدولة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة؛ ما يعني جدلاَ َ انعدام مؤسسات الدولة من جهة وعدم توافر مقوّمات الحياة الإنسانية من جهة أخرى.

                               وبناء على مثل هذه الحقيقة, يتراءى للمتمعِّن المتأنيّ أنَّ الضرورة تحتِّم علينا تناول أمور عملية ملحة وعاجلة لأنَّها تمسّ حياة الناس مباشرة فتهدِّدها ليس بمشكلات حياتية معقدة يصعب حلّها أو التراجع عن نتائجها الكارثية حسب بل بالموت والفناء في أخطر كارثة إنسانية متوقعة في عصرنا. فنحن والحال هذه اليوم لا يمكننا الانشغال عن حقيقة حاجتنا لإيجاد مقوِّمات الحياة الإنسانية الأساسية الضرورية, عبر إعادة بناء بل خلق مؤسسات دولة من جديد (فضلا عن تعاظم مهمة إزالة أنقاض الماضي) وإعادة إدارة عجلة الاقتصاد والحياة الإنسانية بإعمار المخرَّب وبناء الحاجات الماسَّة المطلوبة سريعاَ َ استجابة لحتميات إدامة الحياة الإنسانية المهدَّدة بالهلاك والفناء كما أسلفنا في هذه القراءة.

                               وعليه فإنَّ جلَّ الجهد الذي تنهض به القوى السياسية الجادة في صلتها بشعبنا وبمعالجة مهمات حاضره وبناء مستقبله الزاهر, ينصبّ على إعمار مؤسسات دولة تستجيب لهذه الحقيقة أولاَ َ بوصفها أسبقية أو أولوية لا تشاركها أية مهمة أخرى في اللحظة الراهنة..

ومن هنا جاء انبثاق مجلس الحكم على ما يعتوره من مثالب أحياناَ َ وصعوبات أحيانا أخرى  في ظروف تعامله مع واقع معقد وشائك؛ وفي ظروف المحدِّدات التي تتحكم أحياناَ َ بصلاحياته من جهة وبأطر عمله وحريته من جهة أخرى, وجاءت ولادة الحكومة العراقية الانتقالية المؤقتة لتسدّ أولى الحاجات وأخطرها شأناَ َ في تدوير عجلة الحياة في الدولة العراقية الجديدة ثم بدأت الحيوية تدبُّ في مؤسساتنا في شروع كفاحي وببسالة نادرة لخدمة الملايين المهدَّدة في وجودها.

                            وهنا يفتضح أمر تلك القوى التي لا يروق لها كلّ هذه النجاحات فراحت تفجِّرُ وتغتال وتحاول إشاعة مظاهر الخطف والتقتيل والاضطرابات وما إلى ذلك وجنحت لإثارة الفوضى والجريمة في الشارع العراقي.. وذريعتها لكي تكسب أو تُبقي على شكل من التأييد لأفعالها المخزية المشينة هي (شرعية؟) كونها تعمل ضد قوات أجنبية تحتل البلاد. ومن المناسب هنا التأكيد على أنَّ مثل هذا التوجه الذرائعي الساذج يجد مساحته الأساسية وجمهوره في خارج عراقنا وليس بين أبناء شعبنا بما يحملونه من وعي, فهل لمثل هذه الشرعية حتى لو صحَّ نفَسُها إكسير إدامة حياة شعب مهدَّد في وجوده المادي الحيوي وليس المعنوي؟؟.

                            في هذا الصدد لا يتساءل اثنان من العراقيين الغيارى على عراقهم وأهلهم ولا يختلفان في أولويات الحياة وتمكين الدولة من إيجاد مؤسساتها إذ تتفق الأغلبية الساحقة على هذه المهام, ولكنَّ التساؤل ـ وهو موجَّه إلى من يشملهم خلط الأمور والمعالجات ـ يكمن في مؤدى أعمال العنف الدموية والتفجيرات التي تطال المدنيين قبل غيرهم والتي تتمّ في أماكن العبادة المقدسة وفي الأسواق وفي منشآت مياه الشرب والدوائر الخدمية لحاجات الناس الحياتية.. هل كلّ هذه المواقع وغيرها من الأهداف ذات الطابع الإنساني الخَدَمي البحت هي ما سيُخرِج القوات الأجنبية؟!! وهل اغتيال الشخصيات الوطنية وقيادات الأحزاب والعاملين في المؤسسات الجديدة للدولة العراقية هو ما سيوفر المقاومة الوطنية ضد الوجود الأجنبي؟ وهل بالسوَقَة والمجرمين المأجورين واللصوص تُقاد حركات التحرير والاستقلال الوطني؟ أليسوا هؤلاء هم أنفسهم الذين أُطلِق سراحهم بالأمس القريب من سجون الجريمة والأفعال المشينة؟ ما الذي حلَّ ليكونوا اليوم حاملي ألوية تتمثَّل في أفعال لا تقلّ دناءة عمَّا عُرِفوا به في أمسهم؟! [ولا نغفل الإشارة هنا إلى اندفاعات الشباب الحماسية المنقطعة عن الخبرة والدراية السياسيتين وما يترتب على ذلك من ثغرات خطيرة على الرغم من حسن النية ومصداقيتها].

                                 وبشأن تساؤلاتنا هذه بالذات نتوقف عند تلك القنوات الإعلامية (المعروفة)  التي تُسبِغُ على هؤلاء  سمة المقاومة والبطولة؟؟! وتخلط  وتشوِّه عبر معالجاتها مصطلحات المقاومة الوطنية والنضال من أجل لقمة الخبز بأعمال الجريمة المنظّمة واللصوصية وبممارسات قطَّاع الطرق ليظهر في الشارع السياسي (بخاصة منه العربي) تصورات صادمة مثيرة للاستهجان والسخرية بخاصة عندما يُطلَق على شعب الرافدين بأكمله على أنَّه شعب يبيع استقلاله وسيادته ويخون القضية (عن أية قضية يتحدثون؟!!).

                                  وإذا كنّا لا نختلف على تحديد مفهوم المقاومة الحقيقي وماهية مُستهدَفَاته, فإنَّنا نشدِّد على عدم اختزال المقاومة الوطنية في شكل واحد يتجسَّد في الأعمال المسلَّحة, وإلا فإنَّنا سنقع في مطبات كارثية تكلّف شعبنا أكثر مما تحقق له وتنجز ومن أخطرها تشويه مفهوم المقاومة بخلطه عمداَ َ بأعمال العنف اللامسؤولة وبالجريمة المنظَّمة.. بينما ينبغي هنا بعد التعريف بكل أشكال المقاومة الحقيقية المتنوعة المتكاملة أنْ نختار التوقيتات المناسبة لخياراتنا من بين وسائلها سواء منها المسلَّح أم السلمي السياسي والدبلوماسي وغيرهما. ولعلَّنا هنا لم نجانب الحقيقة إذا ما قلنا: إنَّ إعادة بناء دولتنا ومؤسساتها بشكل مباشر ومن دون خلط أوراق المهام والمعالجات هو بشكل آخر نضال من أجل انتزاع ما سُلِب منّا لحظة هزيمة الدكتاتورية..

                                   على أنَّ ذلك لا يعني بالمرّة أنَّ استقلالنا كان موجودا على عهد الدكتاتورية مطلقاَ َ.  فلقد رهن الطاغية بلادنا منذ اتفاقية صفوان ومن ثمَّ ما لحق ذلك من قبول كثير من الشروط المهينة المُذلّة للسيادة مقابل الإبقاء عليه في كرسي السلطة. ولم يكنْ ذلك غريباَ َ على سياسته. وغير هذا مما يقع في الدبلوماسية المعاصرة لم يكن شعبنا مستقل الإرادة في ظل حكم طاغية مستبد باع واشترى بالعراقيين بأبخس الأثمان. وكان العراقي مستعبدا لا يملك حتى حق الحياة ولا نقول الحريات الأساسية؛ ولذا وضَعَه دراكولا الأسْوَد في أتون حروب متعاقبة طوال مدة تسلّطه على رقاب شعبنا وراح ضحية إعداماته مئات ألوف الناس ولم تعُدْ ماكنة الإعدام تكفيه فاتجَهَ لاستخدام الدفن الجماعي والأسلحة الكيمياوية وغيرها من فنون الهلاك والموت.. فهل كان العراق بعد كلّ ذاك مستقلاَ َ؟ وهل حاكم من بلادكم بهذا التوصيف أدْعَى لتأكيد الاستقلال والحرية؟ وهل هذه مستهدفات تلك الفضائيات الصادحة بحمد الطغاة صباح مساء مما تبتغي إعادتنا إليه وهيهات لهم تلك الأحلام المريضة؟ 

                                 إذنْ, فنحن أمام حقيقة مركبة لا تُختَزَل بوجود قوات أجنبية ليسجِّل بعضهم احتلالا على وفق القانون الدولي وغيره, وليعقب ذلك بدعوة ساذجة لإخراج المحتل بشرعَنَته القتال أو حتى الجهاد المقدَّس وبعده يُدخِل كل عملية عنف مسلَّح في قائمة حربه للتحرير؟!! إنَّ خصوصية كلَّ حالة مسألة طبيعية؛ وما يعقب الخصوصية هو دراستها بقصد الاستقراء والاستنتاج الصائبَيْن والإيجابيَيْن.. وفي القضية العراقية ليس من مفرّ للحكيم المتّعِظ من أنْ يؤكِّد أنَّ المسألة تتعلق بمصير شعب وحياته وبقائه وبحاجة مصيرية هائلة فرضتها تداعيات الأحداث للانشغال بمسألة بناء مؤسسات تمَّ تخريبها بالكامل, إذ لا يمثل هذا الانشغال قضية هامشية أو كمالية أو عملية إصلاحية تحسينية بقدر ما يمثل أسّ الحياة الإنسانية عندنا ويمسّ وجود شعب من خمس وعشرين مليون إنسان ليسوا مشروعاَ َ أبدياَ َ للموت من أجل بطل أو بطولة.. والشعار الآن هو مصير الشعب وحياته قبل مشكلات الوطن, وبتوفير هذه الأولوية فقط يمكننا أنْ نطالب الناس بأولويات أخرى وحسب الأهمية والخطورة..

                                      وليس من شأننا بعد ذاك أية مزايدات لفظية من مثل تلك التي تطالب الجريح المُقعَد بمواصلة الحرب زحفاَ َ! لأنَّنا لن نجد لحظتها مَنْ يزحف وجرحه الفاغر المفتوح يأخذ منه آخر قطرة دم وآخر أنفاس الحياة. فلِمَ لا نكون أكثر منطقية وأرجح عقلا؟؟ وليس فينا في مطلب كهذا من تخاذل بموقف أو نسيان لحقيقة أو تنازل عن حق. وإنَّما فينا ما نقرأ به واقع الحال وبُعْد عن ركوب المُحال عن طيش أو غيره...      

                              

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان    

                     2003\ 10 \  09

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

Website :   www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1