الوضع الأمني في العراق بين تخبط الأداء وضعف الإرادة السياسية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

الوضعُ الأمني في أيِّ بلدٍ يعتمدُ على جاهزيةِ المؤسساتِ الأمنيةِ العسكريةِ المختصة وعلى صوابِ أداءِ القيادةِ السياسية وعلى تماسك بنية الدولة وصحة أداء مؤسساتها أيضاً بضمنها توافر القدرات الاقتصادية وإنهاء أمراضه من بطالة وفقر وغيرهما. ولعلَّنا لا نجافي الواقعَ ومثالَهُ عندما نشيرُ إلى حالتين في عراق اليوم: فكوردستان في وضعٍ مستقرٍ آمنٍ بفضلِ جاهزيةِ مؤسساتِهِ وصحةِ القرار السياسيّ وصوابِهِ؛ بمقابلِ تردي الوضع الأمني في العراق الفديرالي، في ضوء شلل واضح في مؤسسات الحكومة الاتحادية وعجزها وضعف الإرادة السياسية.

وعند رصد الوضع لقراءة تفاصيله، سنجد أنّ تشكيل الحكومة الاتحادية ببغداد على أساس المحاصصة الطائفية وانشغالها بتوزيع المناصب لا وضع البرامج قد أطاح سلفاً بأية إمكانات لمعالجة كثرة الخروقات. فمن جهة هناك عناصر مصطرعة بين أجنحة الطائفية ما يدفعها لخلق العقبات والعراقيل أمام الآخر في جهوده ومن جهات أخرى تمّ ويتمّ تنصيب مسؤولين كثرما وجدناهم بلا شهادات أو بشهادات مزورة ومن ثمَّ بلا كفاءة جدية لملء مسؤولياتهم وتوفير الأداء الوظيفي المناسب..

وعدا عن هذا وذاك، فإنّ تلك المؤسسات تمتلئ بعناصر ميليشياوية تأتمر بأوامر جهاتها الحزبية لا قياداتها الإدارية الحكومية! وهي أبعد من ذلك باتت تجاهر باستغلال مناصبها لخدمة حراكها الميليشياوي من فعاليات اختطاف وابتزاز وسطو على المشهد العام على وفق أجندات قيادات الطائفية في صراع سافر بين أجنحة الطائفية على حساب استقرار بنية الدولة ومؤسساتها الرسمية.

فإذا وصلنا بعض التشكيلات العسكرية والأمنية الشرَطية المتبقية فسنجدها بلا كفاءة مهنية من جهة وبلا تسلح حديث يتناسب ومهمة التصدي لقوى متسلحة بأسلحة حديثة فضلا عن روحها الانتحاري قتالياً. وهو المشهد الذي يعبر عنه الانهيار الشامل لتلك المؤسسة في الموصل ومدن ومحافظات أخرى سقطت تحت سلطة الفوضى حتى صارت لقمة سائغة للإرهاب وعناصره الدموية البشعة.

لقد قامت العقيدة العسكرية لجيش الطاغية طوال أكثر من ثلاثة عقود على فلسفة شوفينية فاشية أدت إلى جرائم بشعة بحق مكونات الشعب العراقي. ويمكن الإشارة هنا إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش السابق بحق الكورد. ولكن بعد حل ذاك الجيش والمؤسسات القمعية للنظام المهزوم لم يجرِ تشكيل بديل بأسس سليمة. إذ لا وجود لعقيدة عسكرية لجيش العراق الفديرالي وهناك إهمالٌ متعمدٌ من القيادة الفديرالية ببغداد لقوات البيشمركة بوصفها جزءاً رئيساً من الجيش الوطني العراقي فهي على الرغم من تلك المواقف السلبية من بغداد تمتلك جذورها وتجاريبها وقدراتها كونها قوة مدربة وتمتلك عقيدة عسكرية سليمة... والسؤال لماذا لا يتم اتخاذها نقطة انطلاق وتكويناً مثالا لبناء جيش العراق الفديرالي؟

بعامة، وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نركز على أنّ جيشاً بلا عقيدة عسكرية وبلا خلفية سياسية وطنية جامعة لمكونات الدولة الفديرالية لا يمكنه أنْ يكون آهلا وجاهزاً للتصدي لمهامه في الظرف العادي فما بالنا والبلاد تواجه حرباً شرسة مع استباحة إرهابية تشمل حوالي ثلث مساحة العراق!؟ ومن هنا وفي ضوء هذه الحقيقة، فإنَّ حواراً وطنياً يشمل جميع الأطراف هو أمر ملزم لوضع أسس بناء الجيش والمؤسسات الأمنية بطريقة نوعية مختلفة لا ترقيعية كما يجري اليوم بآليات تخضع لمنطق ما قبل الدولة الحديثة!

إنّ هذه الإشكالية لا تُحسم في ظل سيادة الخطاب الطائفي وإدارته تشكيلة الحكومة الاتحادية؛ ولكننا يمكنُ أنْ نكسبَ المعركة الوطنية ونفرض منطق الدولة المدنية عبر حوارات تستند إلى ضغط المطالب الشعبية من جهة واستثمار فرصة وجود عناصر إيجابية وأخرى حيادية  يجري تجييرها للحل البديل في ضوء الاتجاه العام للتغيير المسنود دولياً مساندةً مشروطة بآليات الحداثة وباعتماد أسس موضوعية سليمة لبناء المؤسستين الأمنيتين الكبريين.

إنّ فكرة العقيدة العسكرية للجيش والشرطة تثير اعتراضاً قوياً ضد حال ترك الأمور سبهللة لمصلحة الميليشيات الناشطة على الأرض في المحافظات الجنوبية والوسطى والغربية. وهي في النهاية ميليشيات فضلا عن تركيبتها الطائفية تستغل وجودها لمآرب قياداتها وخوض الصراع بعضها مع بعض ومن ثم تخريب البنى المجتمعية كلياً. وكي تستقر عقيدة الجيش والشرطة ويجري توظيفها ميدانيا في تنفيذ القانون وفرض سلطة وطنية، لابد من البحث في آليات عملية لإنهاء وجود تلك الميليشيات بعيدا عن فكرة جعل دمجها بالجيش والشرطة أسلوباً للحل لأنّ ذلك لا يلغيها بل يُمَكِّنُها من الوضع ويغطي على ما ترتكبه من جرائم. بينما الصائب هو احتكار السلاح من طرف الدولة لا غير ومنع وجود منافسين يشلّون دور المؤسستين العسكرية والأمنية.

وفي منحى آخر لقراءة الوضع الأمني بضوء مستويات بناء المؤسسات المسؤولة عنه، يمكننا بعد ذلك أن نسجل ملاحظة بارزة أخرى على تركيبة الجيش والشرطة والمخابرات فالمؤسستين الأوليين متضخمة عدديا بلا نوعية كما أسلفنا ولكن الأخطر في ذاك التضخم هو وجود ظاهرة (الفضائيين)! أيّ رصد أعداد بأسماء وهمية لا وجود فعلي لها، ما يعني أنَّ التشكيلَ منهارٌ مسبقاً بغير معركة مع أعداء الوطن والشعب لخوائه ووهمية وجود بعض عناصره!

ولعل إزاحة تلك القوائم بعد كشفها سيكون جزئية جد مهمة من الحل، لكنها لن تكون وافية ما لم يجرِ استكمالها بمحاسبة المسؤولين عنها واستعادة ما نهبوه بوساطة تلك الآلية من أموال طائلة ووقف تلك الجريمة باستئصال المتسببين بها.

وهنا تبرز مهمة البحث عن البديل وتعويض بنية الجيش والشرطة بحجم مناسب من أعداد متطوعة للعمل فيهما فعليا ولتدريبهم تدريباً نوعياً وافيا وإعدادهم للواجبات المناطة بهم. على أن يجري اختيار المتطوعين على وفق مؤشرات قانونية ناضجة لا تقبل بمحاباة جهة أو طرف أو فئة وأن يمتنع الجيش والشرطة عن حال الإقصاء والتهميش بأسس طائفية في استيعاب تركيبتهما من المنتسبين بما يُظهر إخلالا بنيويا بين مكونات المجتمع وبما يكرس فلسفة الطائفية بأمراضها وما نجمَ وينجم عنها.

وبالإمعان في توضيح الخلل البنيوي للأجهزة المعنية بالأمن الوطني، فإنّ فكرة التسليح والتدريب هي الأخرى في وقت تستند إلى عقيدة عسكرية جديدة لا يمكن أن تكون مقبولة ما لم تنظر إلى الموضوع على أساس حسم تام لبنية الجيش الفديرالي نفسه، كونه يتشكل من قسمين أحد ركنيه هو البيشمركة التي ينبغي تسليحها وتدريبها نوعيا وبمستوى التسليح والتدريب المتخذ فديراليا، فتسليح البيشمركة وقوتها هو قوة للعراق الفديرالي. ومثل هذا الاتجاه في الخطى الاستراتيجية يعني تطوراً نوعيا شاملاً يمكنه إحداث التغيير المنتظر في الأداء وفي توفير استقرار تام للوضع الأمني بالبلاد.

ونحن إذ نحاول تأشير بعض المحاور بطريقة استراتيجية عميقة وبنيوية في معالجاتها، فإنّنا لم نضع الأصبع على الجرح بناء على قراءات متوهمة أو نظرية مجردة بل في ضوء قراءة الواقع من قبيل ما أفادتنا في القراءة حال رصد التذبذب والهزال في الأداء العام. فعلى الرغم من نجاح الهجمات الجوية للتحالف الدولي في تقليص خطر إرهابيي داعش إلا أن المكاسب باتت في تراجع في ضوء عدم وضوح الصورة على الأرض حتى أن بعض القوت العسكرية والشرطية لم يتم تزويدها بالسلاح ما جعلها تفقد مناطق مهمة جرى استرجاعها منذ شهرين مثلما حصل في قرى منطقة البغدادي ومحيط القائم وحديثة ومثلما تُترك بعض القطعات محاصرة بلا دعم من دون أن نجد للأمر تفسيراً موضوعياً سوى البعد الطائفي من جهة ورفض دعم أهالي تلك المناطق (الغربية على سبيل المثال) ما يوقعهم تحت طائل جرائم داعش وقوى الإرهاب بمختلف تكويناتها وتشكيلاتها، مُفسِحةً للإرهاب فرص التمدد والاستقواء!

ولرصد التذبذب والتردد فإنّ بعض أطراف القيادة الحكومية الاتحادية وعناصرها البرلمانية نراها تتحدث عن وجود متطوعين يمكنهم تعويض النقص في التشكيلات المنهارة والمنحلة وتتحدث عن تقدم في استعادة وجود الدولة بالمحافظات التي انهارت فيها وتركتها لاستباحة الإرهابيين، ولكنها تغفل حتى مجرد الإشارة إلى ما يجري ميدانياً من تراجعات غير مبررة بتسليم مدن وقرى مجدداً لسلطة الفوضى الإرهابية، مثلما أشرنا للتو إلى محاصرة اللواء 18 غرب الأنبار والانسحابات من عدد قرى  منطقة البغدادي وترك عشائر البونمر وشقيقاتها بلا دعم ينقذهم من سطوة الآلة الجهنمية للوحشية الإرهابية لداعش وأنصارها!

إنّ تلك الحال ليست مجرد تذبذب عابر طارئ ولكنها حال جوهرية لقوى الطائفية وللوضع العام الذي اعتمد خطابا ميليشياوياً للرد على الإرهاب وقواه فــ زاد و ضاعف هذا في التعقيدات بسبب الممارسات السلبية الخطيرة للقوى (الطائفية). حتى أن بعض الفصائل ترى مهمتها بمنطق (تحرير) أرض واستعباد (إنسان) وابتزازه وإيقاع أفدح الجرائم تجاه المواطن على أسس التمييز الطائفي وما أفرزه ويفرزه من مفاهيم وصراعات...

لا يمكننا في هذه الفوضى الأمنية أن نقرَّ حلاً ترقيعياً ولا اعتماد التصريحات الطنانة والاستكانة لها، فهي ليست أكثر من قرع طبول جوفاء عالية في صوتها خاوية في قدرتها على التغيير الجدي المسؤول. ونحن هنا نعول حقيقة على تغير في الإرادة السياسية باعتماد خطاب وطني لعراق فديرالي يحترم جناحي الفديرالية ويوفر العدل والمساواة بين أبنائه بمكوناتهم وأطيافهم  ويبني مؤسساته بعقيدة جديدة تستند للوجود الفديرالي وتبحث في أسس معالجة الفساد في تلكما المؤسستين المهمتين واعتماد معايير وظيفية نوعية وجهود تسليح وتدريب مختلفة.

مع حصر الجهد الأمني وواجباته بالجيش والشرطة والتدرج في إنهاء وجود الميليشيات ومعالجتها موضوعيا بدمج عناصرها بالمجتمع ومؤسساته المختلفة الأكثر مناسبة لاستيعاب منتسبي تلك القوات ومنع إبقائهم خارج سلطة الدولة وقوانينها. مع الانتباه على إنهاء حال الاعتماد على وجود ما يسمى حشدا شعبيا وأيضاً إنهاء التفكير بتوزيع السلاح ميليشياويا وخارج سلطة الدولة. فمع نضج واستكمال أداء الوحدات العسكرية والشرطية الأمنية لا يجوز قبول أي تسليح خارج نطاق الجيش مثلما هو الحال في المناطق التي تخضع لدفاع البيشمركة وحمايتها، كونها قوات نضجت إمكاناتها وتستطيع النهوض بواجباتها وهي ليست بحاجة لتشكيلات جديدة من أيّ نمط لأن تلك التشكيلات في المنتهى ستكون عبئا مرضيا لا يجوز الشروع بتشكيله..

إن القراءة المنصفة للوضع الأمني في العراق الفديرالي تشير إلى قراءات المجتمع الدولي وما تمنحنا الوقائع من صور مأساوية إنسانيا ما يتطلب تغييرا نوعيا عاجلا واستفادة قصوى من دعم التحالف الدولي وحل جدي للقضايا الفديرالية العالقة كونها ركناً من الأركان البنيوية التي تنتظر المعالجة. وإذا أردنا عراقا آمنا منتصرا على الخروقات المرضية في فاتحة عام جديد فيجب أن نطوي صفحة على ما تحكّم بالبلاد سلبيا طوال العقد المنصرم وأن نضبط الاتجاه بتخطيط استراتيجي جديد بأسسه الأنجع والأسلم.. ولتتسع جبهة الشعب لبناء الدولة المدنية بتلك الأسس الموضوعية المتاحة اليوم إذا ما تمّ اغتنام الفرصة وإلا فلات ساعة مندم...!