مَنابِعُ الْحَلَّيْن السّياسِيّ والْأَمْنِيّ فِي عِراقِ مَا بَعْد الزّلْزَالِ

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

زلزالُ الانهيارِ الشاملِ للحكومةِ في الأنبارِ ونينوى ليس حدثاً عابراً؛ إنَّهُ طيُّ صفحةٍ وفتحُ أخرى، يجبُ أنْ تكونَ بديلةً حقيقيةً وإلا فإنَّ التداعيات ستأتي على كلِّ ما تبقى من الوجود العراقيّ بهويتِهِ القائمة. وقبل الخوض في إشارتنا إلى الحلِّ البديل نضعُ عدداً من التجاريبِ أمامنا لكي نتصورَ الحلَّ الأنجعَ.

ففي التجربةِ السوريةِ جاءت عسكرةُ الحلِّ بدل الاستجابة للوقائع ومطالبها وما كانت تفرضُهُ من محدداتٍ بالنتائج المأساوية التي نراها جميعاً اليوم.. وهي نتائج أسوأ من كارثية لحجم الضحايا والخسائر التي لحقت بالشعب وبالدولة السورية وبنيتيها التحتية والفوقية، طبعاً إذا ما استثنينا فكرةَ بقاءِ شخصٍ بسدة السلطة كونها ربحاً لطرفٍ!!

وفي التجربةِ المصريةِ تتأكدُ لنا نتائج التغيير عندما يكون سلمياً وإنْ جاء بتحدٍ شعبي لِمَن يتمسك بالسلطة. فلقد جنَّبتْ (إيجابيةُ) الجماهيرِ الشعبيةِ البلادَ ورطة بقاء من رعى ولادة المجموعات الإرهابية التي هددت بتمزيق البلاد وأسر العباد وافتعال احترابِهم وتَقاتُلِهم. إنّ  نزول الشعب متظاهراً في الميادين كان حسماً للموقف بـ(روح إيجابي) فاعل مؤثِّرٍ، ولا يمكنُ، لو جرى العكس، إلا أنْ تتجهَ الأمورُ عكسياً؛ حيث كانت ستجري أخونة البلاد وصبغها بصبغة أحادية تقمع التعددية والتنوع التي عُرِفت بها مصر، وتثير المشكلات الأعمق غور جراحاتِها في الجسد المصري!!

إنَّ منبعَ قراءتِنا الوضع العراقي القائم هو التجاريب دول الجوار الأقرب إلينا، وإِنْ تنوعت في خصائصها بالإشارةِ إلى التجربتين السورية والمصرية.. وما يُستخلَصُ من التجربتين أنَّ إيجابية الموقف الشعبي تظل العامل الأكثر حسماً باتجاه الحلول السلمية؛ وحيثما تلكأ الفعلُ الشعبيُّ تفاقمت المشكلات وتحوَّلَت إلى فظائع كارثية. وعند البحث في منابع أخرى للوصول إلى الحلّين السياسي والأمني، فإنّنا سنجد في التجربة العراقية نفسِها منبعاً ثرَّاً مهماً للتوكيد على أهمية الفعل الشعبي الواعي للمجريات...

لقد مضتْ عَشرٌ عجافٌ استطاعت فيها سلطة الطائفية السياسية أنْ تسطو على الوضع برمَّتِهِ محتكرة السلطات التنفيذية بكل مفاصلها قاضمةً كل من التشريعية والقضائية ومعطِّلةَ استقلاليتهما لتجيرهما لسطوتها وسلطتها، في خرق بنيوي أودى بالأوضاع باتجاه إشعال نيران معارك تنتمي للحرب الأهلية (طائفية الجوهر) بين 2006 - 2008 وأحداث ما بعدهما.. وكذا هي إفرازات ذاك النخر الذي أصاب البنية الفوقية للنظام ما أدى لكلّ ما جرى ويجري اليوم... ولعل حجم تلك السنوات العجاف بات خزينا يمثل الدرس الأوضح والمنبع الأغنى للتفكير بالحلّ الأنسب.

ولمن لم تكفِهِ كلُّ تلك التجاريب ولم تشكّلْ له منبعاً للحلّ لا يمكنُ له إلا أنْ يكون مجرد أسير الجهل والعمى الإنساني الذي يسهِّلُ مهمةَ التضليلِ للحراك الطائفي بجناحي وجودِهِ. وبالنتيجة لا مفرَّ من انفتاح مدى استغلالِهِ وقمعِهِ ووضعه طعاماً سائغاً في محارق الحروب الدائرةِ التي ليس لهُ فيها لا ناقة ولا جملا...

إنّ أولئك الذين يَرَوْن في الحلِّ العسكريّ الأمني كافياً، محقون بقدْرِ تعلق الأمر باستمرارهم في سدّة الحكم؛ يمسكون بها بالحديد والنار؛ لا يهمهم في ذلك الحجم المأساوي الكارثي للضحايا والخسائرالمهولة، فهي ليست منهم ولا من جيوبهم وأملاكهم وإنّما هي من جنود يسوقونهم لمحارق التهلكة بخطابٍ يستمدّ من الماضي البعيد قدسيةً يُسقطونها على أفعالهم الإجرامية.. إنَّهُم يَنْهبُون ويغتصبون ويقتلون ويرتكبون كلَّ الموبقات ويمارسون البشاعات.. وكلّها مبررةٌ بالقدسية الطائفية..

ولكن، هل حلّهم العسكري الأمني جاهزٌ وكافٍ حتى بإطاره المخصوص؟ أم أنّهُ يمتلئ بالثغرات والنواقص حدّاً لا يسمح للدولة بالحركة بمقابل قدرات الفعل الميليشياوي لجناحي الطائفية من قوى إرهابية منظمة؟ الحقيقة تعكسها الوقائع يوم هرب قادة جيش حكومي جرار و فرّ خلفهم جنودهم قليلي التدريب قليلي القناعة بالتضحية من أجل كرسي سلطة الطائفية. وتعكسها حال عدم تنظيم الجيش النظامي بطريقة مدروسة خبيرة بوجود عناصر ليست كفءا ولا تمتلك مهارات الأداء التخصصي. فلطالما كان الجيش محصور المهام في أداءات شرطوية بحتة مثل إقامة سيطرات وحواجز أمنية ومثل  مطاردة المتظاهرين وقمعهم؛ بينما لم يخضع الجيش لتدريبات تخصصية تجاه التهديدات التي يجابهها العراق!

اليوم يكمن الحل العاجل في التصدي لتقدم الإرهابيين ولانتشارهم الواسع في الميدان العراقي وهو ما لا يتمّ عسكرياً أمنياً حسب بل يتطلب حلولا سياسية هي الأخرى عاجلة. وفي وقتٍ لا يمكن أنْ تُحلّ كل الثغرات الموجودة في أوضاع قطعات الجيش، يمكن معالجة الأمر بخطوات رئيسة هي كالآتي:

1.          عزل القيادات الواهنة وغير الكفوءة، ومحاسبة الهاربة ومعاقبتها على وفق القوانين العراقية المعمول بها. وضمناً يتحمل القائد العام مسؤولية المجريات والمحاسبة المنتظرة سياسيا عسكرياً على وفق القانون.

2.         حصر فوري لحالات التطوع وإلحاق العناصر بقطعات الجيش الحكومي حصراً، وعلى وفق الأنظمة والآليات المتاحة التي تجنّب البلاد استيلاد ميليشيات جديدة و\أو منح ميليشيات موجودة شرعية الحراك وتضخيم أدوارها...

3.         التنسيق مع قوات البيشمركة وقيادتها ومنحها فرص مساهمة جدية فاعلة وكاملة ميدانياً مع إنهاء ما عليها من أشكال حصار ومقاطعة من حكومة بغداد.

4.         طلب الاستشارة والدعم العسكري والاستخباري الدولي بحسب المتاح الممكن بلا نتائج سلبية عارضة.

5.         تحصين المواضع الرئيسة ببغداد واستعادة المبادرة في الميادين التي احتلتها قوى الإرهاب الداعشي وغيره. واعتماد استراتيجيات جديدة لمواجهة لتحرير المحافظات والمدن العراقية وتأمينها ضد الأعمال الإجرامية.

6.         استثمار كل الطاقات العراقية العسكرية والأمنية الموجودة من تلك التي تؤمن بالتغيير نحو عراق ديموقراطي فديرالي جديد.

7.         التنسيق المحصَّن وطنياً عراقيا مع الجهات الإقليمية المعنية بمجابهة الإرهاب مباشرة بخاصة الذي يتنقل بيين ميادين وجوده في بلدان الجوار.

 

أما الاكتفاء بهذا الحلّ الأمني فلن يكون ناجحاً، في ظرف التعقيدات الجارية من جهة مشاركة جمهور من المحافظات التي سُمِح لقوى الإرهاب بالانتشار فيها في إطار الصراع بين جناحي الطائفية وفي إطار تحكّم، سواء كانت تلك المشاركة ناجمة عن ردّ فعل على التهميش والإقصاء الطائفيين أم واقعة بدائرة التضليل أم مأسورة من القوى التي احتلت المنطقة. فضلا عن أسباب ودواعي أخرى لمعطيات التعقيد المرصودة.

ولقد أطلقت قوى التنوير العراقية مبادرة لخارطة طريق هي المنبع الرئيس للحل وطنيا عراقيا، وقد تفاعلت معها قوى دولية ولكنها لم تلقَ صدى من قيادات الطائفية تحديداً. ولعل هذه المبادرة التي صاغها مثقفون ونخبة العقل العلمي العراقي تردَّدَ جانب منها على ألسنة قادة فرنسا وبريطانيا ودول إقليمية بالحديث عن ضرورة بل حتمية وجود أسس وطنية للحل السياسي الذي يجب أن يتجاوز التمييز الطائفي.. وحتى خطاب الرئيس الأمريكي ورد فيه توكيد على أنّ الحل البديل يجب أن يقوم على الحوار بين أطراف العملية السياسية وأن يتسم ببديل جديد يتجه نحو (الديموقراطية العادلة) على حد تعبيره. ومع هذه القوى الدولية الفاعلة حركات أممية بارزة أكدت وتؤكد على هذا العمق المنتظر للحل ممثلا بالبدائل السياسية الوطنية..

ولعلّ مثل هذه المواقف الدولية، المستنيرة تسجل تشجيعاً ودعماً للحل السياسي الشامل الذي يمكنه أن يسحب البساط من تحت أرجل قوى الإرهاب والطائفية، ويدفع بالقوى الفاعلة اليوم للاقتراب من التحول والتغيير. إنّ المنتظر من جميع الأطراف أنْ تعيَ مقدار الجريمة وحجم الخراب الذي سينجم عن مواصلة خطاب طائفي ضيق وأنه سيعود في النهاية عليها بالضرر مثلما يقع اليوم على أوسع جمهور من الضحايا والقرابين البريئة!

إنّ كثيراً من الأصوات وحتى منها ما لها جذورها وصلاتها بالانتماءات المذهبية المتنوعة والمختلفة، قد اتجهت اليوم لنداء يتفق أو يقترب مما طرحته (مبادرة المثقفات والمثقفين العراقيين لأجل السلم الأهلي والوحدة الوطنية). علما أنّ التيار الديموقراطي قد دعا إلى مؤتمر وطني عاجل وأنّ القيادة الكوردستانية تشارك فعليا ميدانيا بكل المسارات المتجهة لهذا الحل الشامل.

إنّ المنتظر الآن هو لقاء على أعلى مستوى يجري [ربما] بأربيل لتنسيق كل تلك النداءات والمواقف والمبادرات وتوحيدها في خارطة طريق بأسقف زمنية للتنفيذ العملي وأن يجري تشكيل غرفة عمليات للمؤتمر الوطني ووفود داخل الوطن وخارجه تُجري المفاوضات المباشرة في ضوء المبادرة الوطنية الشاملة. ولربما كان مهماً اليوم أنْ تنهض القوى الموجودة في سلطة حكومة تصريف الأعمال بقرارات تفتح الطريق بهذا الاتجاه بدل إغلاق منافذ الحوار والبدائل السياسية. ولا ينبغي للأمور أن تجري مجددا بتأثيرات أجنبية مباشرة أو غير مباشرة تطفح منها تجاذبات تناقضية ومصالح لا علاقة لها بالعراق والعراقيين.

ولربما كانت مبادرة لرعاية نازحي نينوى والأنبار الموجودين بكوردستان وترتيبات تفاصيل اليوم العادي للمواطن مما باتت أموره تنذر بأزمات قد تستفحل مع مرور الوقت، لربما كانت المبادرة بهذا الاتجاه مما يداوي جراحاً قبل أن تلتهب قيحاً يرتد على وجودنا الوطني في ضوء الإهمال لمطالب إنسانية فورية عاجلة مستجدة!

أما عن هذه المقالة فهي لا تنقل تفاصيل الحل بقدر ما تؤشر إلى الاتجاه وتدعو بقوة إلى تلبية مفردات ما اُقْتُرِح من خارطة طريق هي الأنجع والأشمل بحسب رؤى العقل العلمي الوطني العراقي وبحسب رؤى قادة دول كبرى وحركات أممية مهمة.. فهلا سارعنا معاً وسوياً إلى تلبية النداء؟؟؟