العلوم والتخصصات الإنسانية:

لماذا يستسهلون التدخل في شؤونها ؟وما نتائج ذلك على مستوى آليات عمل مؤسسات الدولة؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  02 \11

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

لقد تطور المعارف البشرية وتعقدت حتى صار الروح الموسوعي الذي كان ممكنا في يوم من الأيام أمرا مستحيلا مع تقدم التخصص العلمي وتقسيم المعارف والعلوم على مفردات متنوعة مختلفة وإنْ تكاملت من حيث النتيجة. ومن جهة المعارف العلمية الرياضية الصرفة فإنَّها نجحت في الحصول على الإقرار بهويتها العلمية أو بانضواء تحت تعريف العلم ومادته...

في حين ظلت العلوم المسماة "إنسانية" بعيدا عن الحصول على إقرار بعلميتها أو بانضوائها تحت تعريف العلم, فظلت عند بعضهم مجرد معارف وخبرات وتجاريب إنسانية من ضمن ثقافة عامة لا يمكنها أنْ تسجِّل علميتها لأنَّها عرضة حسب تصوراتهم ومزاعمهم للتغيرات المستمرة وعدم الثبات ولأنَّها بغير قواعد راسخة ثابتة...

أما الحقيقة فليست حسب رؤية هؤلاء في أنَّ العلوم الإنسانية هي مجرد اجتهادات عقلية أو رؤى فكرية لا تخضع لقاعدة مستقرة أو لقياس إحصائي رياضي.. إنَّ الحقيقة تؤكِّد علمية تلك المعارف وثبات قواعدها ورسوخ قوانينها وعودتها إلى قياسات رياضية إحصائية تعتمد تكرر التجربة بما يكفي من توظيف المعايير العلمية الدقيقة في معارف من نمط علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم  الأدب والنقد ونظريات الدراما والرواية  وعلوم القانون والسياسة وما إليها...

وعليه فهذه المعارف الإنسانية هي كغيرها من الاختصاصات ينبغي النظر إليها بوصفها علوما صرفة تحتاج للدراسة والتخصص مثلها مثل غيرها من التخصصات العلمية الأخرى. وهي مثل غيرها من العلوم لا يستطيع شخص أنْ يزعم تخصصه بها من دون دراسة كافية يجتاز امتحانها وتؤهله بمصداقية موضوعية لإعلان تخصصه ومن ثمَّ إمكان ممارسة النشاط المعيَّن مما يتبع التخصص المعني...

واقع هذه المناقشة يصبُّ في ذياك الإنكار لعلمية المعارف الإنسانية لسببين أولهما جعل تعريف مصطلح علم محصورا في تعريف علم الرياضيات وما يحيط به من علوم قريبة مباشرة وهو قـَصْر سلبي بيِّن.. إذ لكلِّ علم حدّهُ الخاص ولكنَّ قـَصر تعريف العلم وتحديده بتعريف العلوم الرياضية الصرفة أمر فيه خطل كثير.. إذ ليس من الصواب مطابقة كل المعارف الإنسانية ومعايرتها بأساس ضيق كالمقياس أو المعيار الرياضي البحت. وبقراءة من زاوية أخرى يدعو هؤلاء إلى التوسع بتعريف علم الرياضيات ليشمل أو ليغطي العلوم الأخرى ولكن بشكل محدود يُخرِج أغلب العلوم من التعريف من أجل الإقرار بالمبدأ أو التصور المحدود الضيق هذا...

وأغلب الحال أنَّ مَن يحاول مثل هذا الأمر أما يعود لجهله بطبيعة العلوم الإنسانية ومنهجها وأدواتها ومعاييرها وانصرافه للتجريد الرياضي المخصوص وأما لسبب آخر يعود إلى محاولة الدفع باتجاه لقطع الطريق على التقدم العلمي وترك فرص التجهيل تسود في مجالات العلوم الإنسانية لأنَّ التقدم فيها يساعد على التحرر من العقلية الظلامية ومن فرص الاستغلال ووقف التحضر والتمدن ...

وأما السبب الآخر الذي أشرنا إليه فهو بالضبط يكمن في النقطة الأخيرة الخاصة بقوى الظلام ومساعيها لمنع التطور العلمي وقطع الطريق على دخوله في عالم المعارف الإنسانية التي تخص قواعد الحياة البشرية وتفاصيل اليوم العادي للإنسان وللإنسان نفسه ومنطق وجوده وآلية حركته وحياته...

وتأسيسا على علمية المعارف الإنسانية نستنتج أشياء عدة.. فهل لأيِّ شخص [كان] مثلا حق إعلان نفسه عالم في الرياضيات وعلوم الهندسة  فيتدخل في شؤون بناء جسر أو عمارة أو سد أو محطة كهرباء؟ المنطق يؤهل لإجابة كلا قطعا وهو المنطق نفسه الذي نريد التوصل إليه بخصوص المعارف الإنسانية حيث لا يجوز تدخـّـل أو تطفـّـل شخص على علوم الأدب والنقد أو علوم الاجتماع والتربية أو علوم السياسة والإدارة وما إليها..

فمن دون جهة ذات أهلية واختصاص تمنح الإجازة العلمية المتواضع عليها أكاديميا وعلميا لا يمكن لشخص أنْ يدعي أمرا علميا وحقا في ممارسة شأن وظيفي يرتبط به بما يعرّض البشرية لمضار تطفله وتدخله المَرَضي في ذاك الشأن. فمثلما لا يستطيع شخص غير الجراح المختص إجراء عملية جراحة القلب وإلا  قـُتـِل المسكين الذي وقع بين يديه المتطفل المجرم.. مثل هذا أيضا سيكون التطفل على العلوم الإنسانية إضرارا ليس بفرد بل بمجتمع ومن الممكن أنْ تـُرتكـَب جريمة بشعة نتيجة الادعاء وممارسة عمل في ضوء المزاعم والادعاءات تلك..

وشبيه بهذا الأمر أنْ يتدخل عالم فيزياء في شؤون عالِم كيمياء أو الأخير في شؤون عالِم أحياء أو هؤلاء في شؤون غيرهم. فليس معنى أنْ يكون امرؤ عالِم متخصص بشأن من الشؤون فيجعله مؤهلا للتدخل في كلِّ شأن علمي آخر من غير تخصصه وحقله المعرفي.

وتاريخيا حصل في مجتمعاتنا في الماضي البعيد أنْ كان رجال الدين يتدخلون في الشؤون العامة بخاصة منها تلك المتعلقة بإدارة الدولة ومفاصلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويعود ذلك لأمور كثيرة منها طبيعة الثقافة الموسوعية ومستوى التطور في المجتمعات القديمة وتركيب الدولة ومؤسساتها "الثيوقراطية" حينذاك, فضلا عن طبيعة إعداد رجال الدين آنذاك بالتأسيس على علوم بشرية يحصلون عليها دون غيرهم من رعايا الدولة. ..

وحافظ بعضهم على تصور من قبيل موسوعية رجل الدين "المرجع"  وكفاية هذه الموسوعية [في يومنا!] على تغطية مشاركته في كلِّ شأن من شؤون الدولة وهؤلاء لا ينظرون إلى مقدار التطورات والتعقيدات التي جرت على تركيب هيئات الدول ومنظوماتها المؤسساتية وطبيعة العلوم والتخصصات الدقيقة التي استقلت عن بعضها بعضا حتى صارت أشبه بالمنفصلة بسبب دقة التخصص واستقلالية مفرداته وقواعده ونظرياته التي تحكم نتائج العمل في ضوئه...

كما إنَّ لهؤلاء حجج  وذرائع من نمط  تمثيل رجل الدين لسلطة الإله على الأرض وهي إشكالية عالجناها في مواضع أخرى. ولكننا هنا بصدد كفاية رجل الدين المرجع للتدخل في شؤون رسم السياسات والخطط وأشكال الإدارة والتوجيه في مؤسسات الدولة وكأنَّ هذه الحقول آية يحفظها المرجع فيؤديها بنجاح, وهذا ليس صائبا. فالدولة بحاجة لمتخصصين وبعضهم يخرِّج ذلك بالقول بأنَّها بحاجة لتكنوقراط لكي تُدار بنجاح وهو الأقرب للحكمة والصواب..

بعد ذاك ألا يُعدّ تطفلا وتخريبا تدخل أي شخص في شؤون الدولة بمفاصلها المختلفة على أساس من افتراض الموسوعية والمعرفة في كلّ شئ؟!!! أليس استسهال ولوج العلوم الإنسانية وتصويرها مجرد معارف أو خبرات ودربة يمكن التطفل عليها حيثما شاءت رغبات أشخاص واعتقاداتهم الدينية المذهبية؟!!! وهل بعد هكذا استسهال أخطر على البشرية من رسم مصائرهم  بربطها جميعها برأي فرد؟ أوَليس ذاك دكتاتورية ومصادرة للحريات وللعقول وللمنطق القويم حتى دينيا؟

إنَّ كل هذه التساؤلات المشروعة هي أسهل من مخاطر أعظم تكمن في موقف بعض حَمَلَة الشهادات العلمية العليا وهم يمرِّرون مواقفهم الفكرية السياسية بالإحالة إلى معتقدهم الداعي إلى تدخل المراجع في شؤون الحياة والإدارة والسياسة والاقتصاد مختزلين كل العلوم في أشخاص ومختزلين كلّ العلماء في رجل فقه ديني في مذهب بعينه... وهذه أمور لم يزعمها عالم فقيه في عصر من العصور, وهي ليست سوى مظهر من مظاهر تحكم العادات والتقاليد الماضوية مما يعشعش في الفكر الإنساني لمدة أطول من متغيرات الواقع المادية المحسوسة...

وفي ظرفنا العراقي المحسوس نحن بصدد مناقشة أمور استقلالية السلطات وفصلها عن بعضها بعضا ومنع التدخل في الوظيفة العامة من دون صلاحيات قانونية ومرجعيات دستورية وتحقق للمؤهلات الضرورية اللازمة في الشخصية التي تتسلم منصبا أو وظيفة عامة ..

وبفصل السلطات سيكون أحرى بنا فصلها عن مؤثرات المرجعيات من مختلف الألوان والأطياف.. لأنَّ السلطة للشعب ومَن يمثله في المؤسسات المنتخبة. هذا من جهة ولأنَّ الافتراض يقول بأنَّ جهة إدارة الدولة وشؤونها تفرض أو تفترض وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وكلّ حسب تخصصه  ومؤهلاته العلمية المعلومة والمكافِئة للمكان الذي يحتله...

وبعد فللموضوع بقية آمل أنْ يكتبها الحوار العلمي الموضوعي لنصل إلى استقرار بلادنا وتجنيبها المصير المجهول بل المآسي والكوارث القاسية نتيجة السماح بتمرير ما من شأن الإضرار بمستقبل أفضل...

 

خاص بعراق الغد        www.iraqoftomorrow.org

 

 

 

1