النقد الموضوعي.. السلطة الرابعة

وتطور العملية الديموقراطية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  01 \   29

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

-    1   -           

شبع العراقيون من زمن لا صوت يعلو على صوت الحاكم وأبواقه؛ وطفح الكيل مع [حكمة مزعومة راشدة] تستلب حق الناس في التفكير وفي تقرير مصائرهم ومصائر حيواتهم, وتصادر حتى حق حياة إنسان زاعمة أنَّ هذا خائن مرة وذاك متقاعس مضر بمصلحة الوطن مرة أخرى وغيرهما من أعداء الشعب.. أمّا لماذا وكيف توزَّع هذه التهم فلا حق لأحد أنْ يناقش...

وتعمَّقت في الحياة العامة فلسفة لا تسمح بالجدل ولا في أقل تقدير التساؤل ولا نقول معالجة أمر وانتقاد ثغرات أو محاولة تقديم بديل أو اقتراحه.. وفي ضوء فلسفة القائد المفكر الذي ينوب عنّا في كل شئ خمدت روح المشاركة وتراجعت روح التفاعل وجدلهما الذي ينشِّط الحركة ويدفع بها باتجاه الأفضل...

كما سادت في الحياة التنظيمية العامة للمجتمع فلسفة تربوية بطرياركية أبوية فيها من المصادرة والاستلاب أكثر مما فيها من قيم بناء الشخصية على التصدي لما يجابهها. فالمرأة تتبع الرجل وقيادته في البيت حتى أنَّ الأرملة تتبع ابنها الذكر (الولد) حيث بلغ من العمر ما يجعله ينطق بين الناس بالعبارة اللغوية. والأبناء يتبعون مركز العائلة وعمدتها حيث يفكر عنهم ويقرر لا مصائرهم ومعتقداتهم حسب بل رغباتهم وانفعالاتهم وعواطفهم وما يحبون وما يكرهون ويجري هذا بعيدا حفظ مصالح مَن نشير إليهم...

وسادت في الحياة العامة من تنظيمات اجتماعية وسياسية مركزية بلا ديموقراطية وليس كما يسميها بعضهم المركزية الديموقراطية.. إنَّها المركزية المطلقة التي تخضع لشعار نفــِّذ ثم ناقش ولكن حين ينفـِّذ الفرد قرار إعدامه وموته واستلابه أنفاسه, فمتى وأين سيناقش؟   الأوتوقراطية والثيوقراطية وأشكال حكم أخرى معصرنة وملمّعة بمصطلحات العدالة  وادعاء اشتراكية توزيع الثروة والمساواة وحرية الناس.. ولا شئ من ذلك كله غير تنميقات ألفاظ...

فأمام أنظار الآباء يجري جز شعر بناتهم وأمام الأزواج والأخوة يجري قطف رؤوسهن. والعبرة لمن اعتبر في أنْ يرفع صوتا أو أنْ يسمع أو يفهم الحاكم أو ممثلوه ارتفاع فكرة ولمعانها في ذهن شخص  ولو من طرف خفي لا يعرف الإنسان من أين عرفوا ما يجول بخاطره وكيف توصل إليه أولئك...

من جهة أخرى امتنعت الثقة بين أطراف المجتمع العراقي وتنظيماته ووصل الأمر إلى التشكيلات الاجتماعية الأساسية؛ فحتى بين الأقرباء والجيران والأصدقاء والزملاء بله بين أفراد العائلة عندما جرى التغرير بالأطفال وجرِّ المعلومات من أفواههم بالاختلاس والتنصت على ما يجري خلف جدران البيوت ـ حيث يُفترَض أنْ يكون البيت مكانا آمنا للإنسان.  وتنصتت السلطات على ما يجري في غرف المنزل حتى غرف النوم.. واعذروني من عدم استخدام علامات التعجب والاستفهام لأنَّ الحديث يجري عمّا تكرر كثيرا جدا حتى تعوّده شعب بأكمله بالإكراه والقسر والغدر و...

-    2   -            

وفي واقع كهذا لم يعد للإنسان من اكتفاء بالحذر في علاقاته في مثل هذا الواقع. وصرنا أمام امتناع النقد وآليته. فلم يكن النقد مسموحا  به على أيّ صعيد. وسادت قاعدة المصادرة والاستلاب والمنع والحظر والتحريم وتجريم كل ما من شأنه إعلان رؤية ولو على سبيل الاقتراح فقط أو حتى على سبيل الفضفضة عمّا يجول في الخاطر لا أكثر ولا أقل.. 

من هنا يتوقع المسؤول الذي تسلَّم مسؤوليته اليوم أنْ تجري الأمور على تلك الشاكلة التقليدية السلبية. إذ نجد ممارسات لا تخشى متابعة النقد وسلطته أو لا تعطي لسلطة الإعلام ومنها الصحف فرصة التناول والمعالجة. وهي فوق ذلك لا ترضى ولا تسمح بالمناقشة. ويصل الأمر وهو هنا الأخطر حدّاَ َ لا يجد أيّ طرف في رؤية ناصحة أو واعظة أو ناقدة إلا بكونها وحيدة الاتجاه وبالضبط نشخص هنا اتجاه العداء والتنافر والتقاطع.

في هذا الجو تمتنع أحزاب سياسية عن توجيه ملاحظاتها علانية. مرسِّخة بمثل هكذا سياسة فلسفة مراعاة المشاعر ومنع الحساسيات وتجنّب احتدام الاشتباك وتحويله إلى تقاطعات تناحرية. وإذا كان صحيحا من المهم التأني وتدبر معالجة اختلاف الرؤى, إلا أنَّه من الصحيح أيضا قراءة التعقيدات الناجمة عن إخفاء الرؤى الصائبة ووضعها بين أيدي الجمهور ليحكم عليها ولتكون بدائله عن الرؤى التي تُفرَض عليه بطريقتين واحدة بالإكراه عبر منفذ العنف وعبر منفذ سلطة إسقاط القدسية وهو ما يحيلنا للمنفذ الثاني وهو منفذ التضليل والخداع...

ومن أمثلة الوضع القائم ما يجري خلف الكواليس من نقاشات لا تطلع عليها الفئات الشعبية العريضة. وفي زمن نتطلع فيه لسيادة الشفافية في آليات العمل في أجهزة الدولة تزداد العتمة والعزلة. ونجد أحزابا تمَّ التعويل عليها لتكون أداة الناس في إعلان رؤى الشعب وتصوراته ومشاريعه وبدائله, نجدها تتلكأ في مصارحة الشعب وإعلان موقفها الواضح من قرارات تتعارض مع مصالح فئات واسعة من الشعب. وفي الحقيقة هناك مواربة ومحاولة للموازنة بين الاحتفاظ بتحالفات معينة وبين الاحتفاظ بجمهور ما ملتفا حول هذه الفئة أو تلك.

ولا أعتقد هنا صوابا التفكير في كون مجلس الحكم أداة تحالف سياسي بقدر ما هو جهاز دولة يخص تجاوز الوضع الراهن بأقل كلفة من الخسائر واستيعاب عمل هيئات الدولة ظرفيا مرحليا بما يهيئ للانتقال السلمي المناسب إلى تسلّم حكومة وطنية مستقلة السلطة في البلاد...

من هنا كان لازما على القوى والأحزاب الوطنية توضيح مواقفها وإعلانها أمام الشعب. وكان لزاما عليها توظيف الشفافية في النقد لتعديل المسارات التي قد لا تناسب تطلعات العامة. ومثل هكذا سلوك يؤسِّس لإعادة الحيوية لفعل النقد الموضوعي في الحياة العامة ويؤكد توجيه آليات العمل في مؤسسات المجتمع والدولة على قاعدة النقد الإيجابي الفاعل والانتقاد البنّاء الضروري جوهريا لأي حركة ولأي تفاعلات بين الرؤى بما يقدِّم الأفضل والأنجع.

إنَّ تلك القوى التي مازالت تعيش بعقلية كل انتقاد هو تجريح سيلفظها واقع  تشكيل مؤسسات الدولة الديموقراطية وأولئك الأشخاص الذين ما زالوا يحوِّلون كل جدل وكل معالجة موضوعية إلى مجرد طعون شخصية ولا يتفهمون جديد آلية النقد الموضوعي ولا يتعاطون مع هذه الآليات الحضارية, سيكونون أول الناس خارج حلبة التأثير الجدي الحقيقي في مستقبل العراق..

والشرط الوحيد لإبعادهم يكمن في مزيد من التحضير لهذه الآلية ومزيد من التعاطي مع مفرداتها. وأول مفردات النقد إعلاء شأن الكلمة والتعبير بوساطة الصحافة والإعلام ما يفضي لوضوح دور جدي للسلطة الرابعة. وهذا الدور لن يأتي منحة من أحد بل سيأتي بالمثابرة والعزيمة والإصرار التي يبديها الصحفيون وهم يدافعون عن الشفافية والعلانية في التعاطي مع حقائق عمل أجهزة المجتمع والدولة.

ولأنَّ من تلك الصحف, صحف الأحزاب السياسية فسيكون على تلك الصحف أنْ تجد سبيلها لتأكيد آليات العمل بالنقد الصريح الواضح وعدم المراوغة واللف والدوران حول الإشكالات وتمييع قوة الجدل ومباشرته التناول لقضية ما. وسيكون سجل كل حزب وكل قوة سياسية أو اجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني كافة محكوما بدرجة الكفاءة في التعاطي مع النقد الصريح وبشفافية..

إنَّ مستقبلنا الديموقراطي لا يتوقف على الشعارات وعلى آليات العمل التقليدية. بل سيقوم على مفرردة جوهرية في حياتنا هي إعلان الرأي صريحا على وفق برنامج يعكس هوية الجهة المعنية وتصوراتها ومعالجاتها للإشكالات الموجودة. وينبغي أنْ يحاكم كل حزب وكل منظمة تلك الإشكالات من هذا المنطلق من غير تردد ومن غير ذياك الحذر الذي طالما ضلل الناس وجعلهم في لبس من أمرهم..

ولهذه العلنية مفردة تأسيسية تكمن في تعزيز لغة الحوار النقدي سواء من جهة الإرسال حيث العلانية والشفافية أم من جهة الاستقبال حيث ردود الفعل الموضوعية وعدم التعاطي مع النقد من منطلقات كونه تجريحا سلبيا أو عدائية أو تقاطعا وتهجما ببعده الفردي الذاتي المرضي.

وليبدأ كتّاب الصحف وأجهزة الإعلام بهذه الفلسفة الإيجابية ولتبدأ الأجهزة الحزبية ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني بنشر الفكر النقدي الذي يبني ولا يهدم. ولنتجاوز عقلية من انتقدني صار عدوي الذي أردّ عليه بلغة السخرية والهزء والحط من مكانته والتشويه ومن انتقدني تجاوزت ما قاله في موضوع ما  بعقلانية لأركز على ما يتم تأويله في العداء الشخصي ولابد أن أنتقم منه بتجريح مضاد.. وما عسانا من وراء كلّ هذه المواقف أنْ نجني غير الألم والحسرة وخسارة العلاقات الإيجابية وانشغال مفكرينا وساستنا بالفردي الخاص والركيك وما لا ينفع الناس ولا ينفع الفرد نفسه أو الحزب المعني..

ولأختم بتساؤل هل سيكون النقد أداتنا للتفاعل وترشيح الأفضل أم سنقف عند زمن المنع ونخاف التأويل الغلط؟ أيهما سنمضي فيه؟ هل سنمضي مع تكلسنا عند الخشية من التأويل التجريحي أم نمضي مع مزيد من النقد الموضوعي التوضيحي الإيجابي البنّاء؟؟؟ ذلكم خيار كل الحريصين على غد أفضل للعراق والعراقيين وبروح عال من التصدي والشجاعة المسؤولة...

خاص بإيلاف   

 

1